الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة مهرجان كان في دورته السبعين: حضور فرنسي بارز، وتراجع أمريكي ومـا تيسّـر مـن العـالـم الثـالـــث

نشر في  14 جوان 2017  (12:48)

بقلم: الناقد طاهر الشيخاوي مراسلنا من مهرجان كان


كنّا لاحظنا في مقالات سابقة الحضور المتزايد للسّينما الفرنسية، والملاحظة لا تزال قائمة. يصعب تفسير هذا الإتجاه، ولكن يمكن فهمه على أنّه مسايرة لنموّ السينما الفرنسية أو نزولٌ عند رغبة (أو تنازل أمام ضغط) الأوساط السينمائية المحلّية، ولكن تبقى كلّها تخمينات. المهم هو أن حضور السّينما الأميريكية، المنافس الأكبر، يشهد في الوقت نفسه تراجعا ملحوظا. فكلّ أقسام المهرجان عرفت هذه السنة عددا هاما من الأعمال المحلّية، كل قسم على شاكلته وحسب فلسفته.
فكان فلم الإفتتاح فرنسيا، كما هو الشأن سنة 2014 و2015. صحيح  أن فلم افتتاح دورة 2016 « كافي سوسايتي » كان أمريكيا ولكن وودي آلن أقرب للسّينما الفرنسية منه للسّينما الأمريكية.
 وخلافا لدورتي 2014 و2015، اختار تياري فريمو هذه السّنة مخرجا أقرب لسينما المؤلف التي طبعت الثقافة الفرنسية. إذ يعدّ أرنو ديبليشان رمزا من رموز سينما ما بعد الموجة الجديدة ووريثا وفيّا لها. كما أفتتح قسم « نظرة ما » بفلم لماتيو أمالريك «باربارا » وهو أيضا من المخرجين المجدّدين فضلا على أنه من الممثلين المشهود لهم بمعاصرتهم لوقتهم. وكذلك كان الشأن بالنسبة إلى « نصف شهر المخرجين » الذي استهل فعالياته بشريط لكلار دوني.
لنعُد للأقسام الرسمية تتضمن المسابقة الرسمية أربعة أفلام («120 دقة في الدقيقة» لروبين كامبيلو و«المهيب» لميشال ازانافيسيوس و«رودان» لجاك دوايون و«العشيق المزدوج» لفرنسوا أوزون)، أمّا إذا أضفنا « نهاية سعيدة » لميكائيل هانكي، وهو فرنسي من حيث الإنتاج والتوزيع والموضوع ومكان التصوير والممثلين، فيكون العدد الجملي خمسة أي أكثر من 20 في المائة من العدد الجملي لأفلام المسابقة. وهذا أمر لافت.
والنسبة نفسها أو أكثر في قسم «نظرة ما» أي ثلاثة على ثمانية عشر فلما. وهي «باربارا» لماتيو املريك و«الورشة» للوران كانتي و«المرأة الشابة» لليونور سيراي .
وكذلك شأن الأفلام المبرجة خارج المسابقة الرسمية، فعددها لا يقلّ عن الستة. وهي من إخراج جاك لانزمان وآنياس فاردا ورايمون دي باردون وجان ستيفان سوفار وباربيت شرويدير واندري تيشيني. هذا في ما يخص الأقسام الرسمية.

رغم ما تتحلى به السّينما الفرنسية من حيوية فإن الأفلام الروائية لم تقدم شيئا يذكر كما لو نفدت القريحة أو تعطلت المواهب

أمّا في قسم «نصف شهر المخرجين » فكانت خمسة على عشرين أي ربع العدد الجملي، وهي لفيليب غاريل وكلير دوني وبرونو دومون وكارين تارديو وفلاديمير دي فونتوناي. اما بالنسبة إلى « أسبوع النقاد » فتكاد تكون النسبة 50 بالمائة من الأفلام المشاركة في المسابقة.
يمكن طبعا اعتبار هذه النسبة، كما سبق أن قلنا، دليلا على حيويّة السينما الفرنسية ولكنها تعبّر في نفس الوقت عن تراجع في تمثيلية السينماءات الأجنبية.
أمّا في ما يخصّ القيمة الفنّية، فالملاحظ هو أن مستوى الأفلام الروائية كان متوسّطا جدّا باستثناء «أشباح اسماعيل » لآرنو ديبليشان و«عشيق يوم» لفيليب غاريل و«بربارا» لماتيو آملريك، والتي كنّا ذكرناها في مقالات سابقة، ويمكن أن نُضيف شريط كلير دُني «شمس جميل داخلي» الذي نال إعجاب العديد من النقاد. وتجدر الإشارة إلى أن أصحاب كلّ هذه الأفلام أو جلّها مخرجون مشهورون، من القامات الثابتة،  أما بقية الأعمال فتكاد لا تذكر. ولكن نسبة الأفلام الجيدة أرفع بكثير في قائمة الأفلام الوثائقية. كنا تحدثنا عن «الورشة » للوران كانتي، ويمكن ذكر «نابالم» لجاك لانزمان صاحب الفلم الشهير « المحرقة »، وهو قصّة حبّ عابرة عاشها في كوريا الشمالية سنة 1958، كما يمكن ذكر « المحترم وي » لباربت شرودر حول شخصية الراهب البوذي ويراثو وما تسببت فيه خطبه المناهضة للمسلمين من جرائم في بيرمانيا. وكذلك «12 يوما» الذي يسائل فيه مخرجُه ريمون ديباردون قانونا صدر سنة 2013 يُعطي للقاضي الحق في تمديد إقامة مرضى الاعصاب في مستشفى الأمراض العقلية. كعادته يتوفق دو باردون بفضل نظام محكم ودقيق في الإخراج في تفكيك علاقات القضاة بالمريض،  كما يمكن أيضا التنويه  ب« وجوه وقرى »، مغامرة جديدة للمخرجة الوثائقة المتألقة آنياس فاردا في رحلةٍ رفقة مصور فوتوغرافي  شاب جان روني عبر قرى فرنسا، ويمكن أيضا ذكر «ماكالا » للمخرج امانويل غرا الذي تحصّل على الجائزة الكبرى في «أسبوع النقاد»، يرافق فيه المخرج شابا في الكونغو ليبين ظروف عمله الشاقة.  كلّ هذه الأفلام توفقت ولو بدرجات متفاوتة إلى التطرق لمواضيع هامة بأسلوب شيق وطريف. ربما في ذلك معنى : رغم ما تتحلى به السّينما الفرنسية من حيوية فإن الأفلام الروائية لم تقدم شيئا يذكر كما لو أن القريحة نفدت أو تعطلت المواهب، بينما وجدت الأفلام الوثائقية مادّة حيّة في مضمونها وطرقا ناجعة في شكلها. صحيح أن جلّ المخرجين الذين ذكرنا هم من القدامى البارعين وصحيح أن المواضيع متوفرّة. ولكن صحيح أيضا أن مواهب المخرجين المذكورين وجدت مادّة غنيّة في قضايا مطروحة خارج حدود فرنسا.
ومع ذلك هذا لم يدفع بالمهرجان إلى انفتاح أوسع على سينماءات العالم،  فاقتصر كعادته على بعض المخرجين المقربين لل« العائلة » أو المسانَدين من الأوساط المهنية الفرنسية من منتجين وموزّعين. وهذا من عيوب مهرجان كان الكبرى.
لِنَكن واضحين : هذا لا يعني أبدا أن الأفلام المختارة والقادمة من إفريقيا أو من آسيا أو من أمريكا اللاتينية غير جديرة بالمشاركة في مهرجان كان، ولكن من يعرف هذه البلدان وسينماءاتها يُدرك أن ما تمّ اختياره لا يمثل بالضرورة أجْودَها. الأمثلة عديدة وكلّما تحدثتَ إلى ناقد أو متابع عارف بهذا البلد أو ذاك قال لك نفس الشيء. الأمر عادي في الحقيقة إذا اعتبرنا كان مهرجانا ككلّ المهرجانات الأخرى وأن الساهرين عليه أشخاص لهم ثقافتهم وعلاقاتهم وخياراتهم. إلاّ أن مهرجان كان أهمّ لقاء في العالم، فعسير على المخرجين الغائبين ألاّ يشعروا بالحرمان. شعور مفهوم ولكنه يجرّهم أحيانا إلى الشّك في قيمة أعمالهم الفنية. وهذا خطأ جسيم ينمّ عن جهل بتاريخ المهرجان الذي جانب العديد من أهم الأفلام العالمية.

ما معنى أن نعتبر فلما أفضل من سواه؟ فالموضوع ليس إلاّ مجرد انتقاء مبني على إعتبارات ذاتية وثقافية وسياسية

من الخطأ الفادح اعتبار فلم «وندرستراك» أفضل فلم أمريكي هذه السّنة وأن «فورتوناتا» أفضل فلم إيطالي وأن « قمر جوبيتر » أفضل فلم مجري.  ثم ما معنى أن نعتبر فلما أفضل من سواه ؟ فالموضوع ليس إلاّ مجرد انتقاء مبني على إعتبارات ذاتية وثقافية وسياسية.
هل ضروري تكرار ما يلي : مهرجان كان مؤسسة ثقافية تحتلّ فيها الإعتبارات الإقتصادية المرتبة الأولى. والجرأة ليست مبدأه الأساسي. فلا يحتمل المخاطرة،  بل يعكس « علاقات قوى » لأن الأفلام وحدَها لا تفرض نفسها في الأسواق الثقافية، هي في حاجة إلى قوة المال والمؤسسات. افتقاد المال والمؤسسات الداعمة فقر مادي. أما القوّة الفنية فهي مسألة أخرى.